هذا الكتاب:
في عالم تهدد فيه الثقافة المهيمنة التي أفرزها النظام الدولي الجديد بابتلاع الثقافات القومية، يصبح تطوير نظرية نقدية عربية بديلة ضرورة بقاء، بعد أن أصبحت الثقافة حصن المقاومة الأخير للأمة العربية في مواجهة تحديات القرن الجديد. كنا قد بدأنا محاولة التأسيس لنظرية نقدية عربية في "المرايا المقعرة" منذ أكثر من عامين. وفي تلك الدراسة نبهنا، عن طريق قراءة جديدة لنماذج من البلاغة العربية في عصرها الذهبي، إلى امتلاك تراثنا خيوطا كان يمكن جدلها اليوم في نظرية لغوية وأدبية متكاملة، لو لم نمارس القطيعة المعرفية مع ذلك التراث وسط انبهارنا بكل ما ينتجه العقل الغربي. واليوم نتابع محاولاتنا لتحديد معالم النظرية النقدية البديلة بالدعوة للعودة إلى النص وتأكيد سلطته، على أساس أن تأكيد سلطة النص لا بد أن يكون أساس أي عمليات تحديث للعقل العربي وتحقيق استنارته. وسلطة النص على وجه التحديد هي ما "نسفته" جميع المدارس النقدية الغربية التي افتتنا بها طوال القرن العشرين. بل إن المدارس النقدية التي أفرزتها ما بعد الحداثة، وصلت إلى إلغاء وجود النص ذاته. وفي محاولة نرجو أن تكون الأخيرة لنقض المدارس النقدية التي أفرزتها الحداثة الغربية وما بعدها، وتحقيق "الفطام" النهائي للعقل العربي، حتى ينتج حداثة عربية خاصة به، عمدت هذه الدراسة إلى تجسيد هول التيه الذي يعيشه المشهد النقدي الغربي منذ النصف الثاني من القرن العشرين. وداخل التيه النقدي الحداثي وما بعد الحداثي، فقد النص الأدبي سلطته، بعد أن تحولت "النظرية" إلى غول مخيف يلتهم كل الثوابت. والعودة إلى النص هي بوابة الخروج من تيه ليس من صنعنا، وأدخلنا فيه البعض على غير إرادة منا.
هذا الكتاب:
على نقيض ما تفعل المرايا المقعرة، تقوم المرايا المحدبة بتزييف حجم الشخوص والأشياء، وتلك هي نقطة الانطلاق الأساسية للدراسة الحالية للتجليات النقدية البنيوية، والتفكيك للحداثة. ومن ثم فالكتاب ليس دراسة في الحداثة، بل في المشروعين النقديين اللذين أثارا الكثير من الجدل في الأربعين عاما الأخيرة في العالم الغربي، والكثير من الصخب في السنوات الخمس عشرة الأخيرة في العالم العربي. وتهدف الدراسة إلى تقريب البنيوية والتفكيك من القارئ العربي في أسلوب مبسط، قد يرفضه الحداثيون العرب بقدر ما تسمح به تعقيدات وتداخلات المدارس الفلسفية واللغوية، التي أفرزت هذين المشروعين في المقام الأول.
وهكذا يناقش هذا الكتاب النسخة العربية للتجليات النقدية للحداثة الغربية، متخذا موقف الرفض ليس للحداثة والتحديث في حد ذاتيهما، بل لنقل مدارس نقدية أفرزها مناخ ثقافي بعينه وفكر فلسفي محدد، إلى مناخ ثقافي وفكر فلسفي مغايرين تماما، وهو ما يؤكد أن اغتراب الحداثي العربي لا يرجع إلى ما يسمى بأزمة المصطلح.
ثم تناقش الدراسة بعد ذلك العلاقة العضوية بين النقد الحداثي البنيوي والتفكيكي والفكر الفلسفي الغربي الذي أنتجه.
وفي النصف الثاني من الكتاب يقدم المؤلف دراسة مبسطة للمشروعين النقديين، ليؤكد فشلهما في نهاية المطاف في تحقيق دلالة النص، أو تقديم بدائل نقدية متقنة للمدارس النقدية التي تمردا عليها، وهكذا تجئ إنجازتهما التي كثر الحديث عنها في المحافل الأدبية والنقدية أشبة بالصور المكبرة داخل المرايا المحدبة، وهي تزيف واقعا أقل حجما وأكثر تواضعا.
هذا الكتاب:
يعيش العقل العربي منذ القرن التاسع عشر، ما يمكن أن نسميه "ثقافة الشرخ". والشرخ هنا هو التوتر المستمر بين الجذور الثقافية العربية والثقافات الغربية التي اتجه إليها المثقف العربي بعد عصر التراجع والانحطاط. وقد ازداد الشرخ اتساعا مع بداية القرن العشرين، ثم أصبح خطرا يهدد الهوية الثقافية مع التحول الحداثي في نهايته، حينما استغل البعض الرغبة الصادقة في "تحديث" العقل العربي في أعقاب هزيمة 67 لينقلوا عن الحداثة الغربية في انبهار أعماهم عن "الاختلاف" و"الخطر". بل إن البعض ذهبوا، في تحمسهم للتمرد على التقليدي والمألوف، وهو جوهر الحداثة، لا إلى الدعوة إلى قطيعة معرفية مع التراث العربي فقط، بل إلى التقليل من شأنه. وهكذا جاءت إلى الوجود ثنائية "الانبهار" بمنجزات العقل الغربي و"احتقار" منجزات العقل العربي. كأنهم وضعوا التراث العربي أمام "مرايا مقعرة" صغرت من حجمه وقللت من شأنه.
وتحاول الدراسة الحالية رد الاعتبار للبلاغة العربية بوضعها أمام "مرايا عادية" تعكس الحجم الحقيقي لإنجازات العقل العربي دون مبالغة جوفاء أو تحقير مجحف. وتخلص الدراسة، عن طريق قراءة جديدة للتراث البلاغي العربي، قراءة لا تهدف إلى تأسيس شرعية الحاضر الحداثي، كما فعل البعض، بل شرعية التراث ذاته، تخلص إلى أن البلاغة العربية قدمت نظرية لغوية ونظرية أدبية تشهدان بعبقرية العقل العربي، ثم إنهما، لو لم يمارس الحداثيون شعار القطيعة مع التراث، كان من الممكن تطويرهما إلى مدرستين لا تقلان تكاملا ونضجا عن المدارس اللغوية والأدبية الغربية التي انبهر بها البعض طوال القرن العشرين. إن القراءة الحالية تثبت أنه لا تكاد توجد قضية لغوية أو أدبية حديثة أو معاصرة لم تتوقف عندها البلاغة العربية في عصرها الذهبي، وبصورة مثيرة للإعجاب والعجب.